رئيس مجلس الادارة: نجلاء كمال
رئيس التحرير: محمد أبوزيد
advertisment

"الهوا حلو"

المصير

الأربعاء, 6 نوفمبر, 2024

08:30 م

 

تلكأت فتاةٌ في ركوب الباص، مقعدٌ أخيرٌ شاغر
وهي لا تريد أن تجلس بجوار رجل، 
نهرها السائق فارتعدت لسماع صوته المعبأ بالنيكوتين وربما بأشياء أخرى ولكنني أحبُّ أن أحسنَ الظن، 
قيدنا الصمت جميعًا في مقاعدٌنا كأنّ على رؤسِنا الطير، لم نتبين قوله حتى أعاده على مسامعِنا  فعرفنا أنه يقول: 

اخلصي يا أبلة ده زي أخوكِ.. 

اكتمل العدد أخيرًا ورحنا نقرأُ دعاء السفر ونتصفح هواتفنا، 
أطبق السائق الأبواب بعنف غير مفهوم، 
بدايتها صخب! استر يارب 

اعتدت أن أرى حرص السائقين الزائد تجاه سياراتهم، هذا السائق العدمي هو الأول بالنسبة لي، عدمي غير مبالٍ بملكِه الخاص! 
كيف يعامل سيارته بهذه القسوة؟ 
ربما ليست سيارته أصلا 
ولو، ألا يخشى غضب صاحبها حينئذ؟ 
قلبه ميت، يابخته 

غادرنا الموقف واستهلّ الطريق الصحراوي بسرعة جنونية، 
صوت الحصى تحت العجلات يصرخ، 
زجاج النوافذ يصفر، 
تيار الهواء الداخل منها يصفع الوجه، 
بينما الرجل منهمك في القيادة، 
وقد قام بتشغيل الكاسيت حيث استهلت الست بألم شديد: 

فات الميعاد..

ما الذي فاتك أيها السبعيني البدين الغاضب؟ 
هل  تعاني خيبة عاطفية؟
ياخيبتي
هل قررت أن تبكي الأطلال في ليلتي الظلماء بصحبة الصحراء والجبال على الجانبين؟ 
ماذنبي؟

أفرُ من الخيبات العاطفية تثاقلًا فتأتيني خيبات الآخرين وأنا جالسة في مقعدي في الباص، 
حظي وأعرفه، 
كيف أصلًا يخيب المرء في السبعين؟ 
فمتى يتعلم من تجاربِه إذًا؟ 
أم أن سعد زغلول كان صادقًا ومفيش فايدة فعلًا؟ 
يا لبشرى المستقبل.. 

يكتملُ المشهد العبثي بثلاثة أصدقاء صعايدة 
في المقعد الأول يجلسون، 
في غاية السعادة يغنون! 
ويشجعون السائق الذي لا يحتاجُ تشجيعًا على الإطلاق، يصفقون ويضحكون 
بينما قررت فتاة بجواري أن تمسك بكتفي وتسألني بفزع واضح: 

هو فيه إيه؟ أنا خايفة

أحاول تقليل حدة الموقف المريب:

يمكن دي الكاميرا الخفية.. 

تحوقل الفتاة وأقرأ ما أحفظ من الأوراد، تمسك بكتفي وأمسك بمقعدي وكأننا كذلك صرنا في أمان، وكأنها غريزة الإنسان أن يأنس بصديقه الإنسان،  والأغنية تدور:

والنار النار النار بقت
دخان ورماد.. 

في المقعد خلفي امرأتان، خمسينية وابنتها الحامل، تنادي السائق بعلو صوتها وترجوه بعشم غاضب: 

بالراحة شوية البت حامل.. 

انتبه السائق وكأنما استقيظ فيه القلب الحنون بعد طول غفوة فترك الدريكسيون فجأة والتفت شذرًا للمرأة: 

أنتِ مش عارفة أنتِ راكبة مع مين؟ 

صرختُ أنا في وجهه وقلت:
بص قدامك ياسطا الله يستر طريقك.. 

يضحك الجالس بجوار السائق وينظر إلينا في تحدي:

قلبكم خفيف أوي، شكلكم أول مرة تركبوا معاه.. 

وعلامَ الفخر يا أبله؟ 
أم أنك سعيد بنجاتك السابقة وضمنت دوامها؟ 

لولا خوف النساء من حولي لظننت أنني أتوهم المشهد بأكملِه واللهِ!

قرأت ذات مرة أن الرجال أقصر عمرًا من النساء  ذلك لأنهم لا يكترثون لسلامتهم وأنهم يُقبِلون على تجارب جنونية بحماس كبير وبلا تفكير، يغريهم الأدرينالين فيتلاشى في عقلهم الحد الفاصل بين الحياة والهلاك، 

رجال هذا الباص من هذا النوع إذًا، 
باصٌ حافلٌ بالمجانين!  

هل أفرح لتحققِ صدق ما قرأت أم أحزن من هذا الرعب الواقعي؟ 
ما بالي أنشغلُ بأمرِ القراءة والكتابة الآن وأنا بصحبة مجموعة من الغرباء في غياهب الصحراء قبيل منتصف الليل نواجه المجهول بقيادة سائق مختل؟ 

في منتصفِ الطريق طلب الصعايدة الثلاثة -غريبو الأطوار- من السائق أن ينزلهم،  
لحظات من الهدوء توقف فيها الباص والتقطت أنفاسي، بينما لم يتوقف ثلاثتُهم عن الضحك، أشاروا يودعوننا بكل فرح أو ربما شماتة أيهما أقرب، 

حيوا السائق تحية حارة: 
أنت راجل مية مية ليلتك زي العسل ياسطا، 

والست تتساءل لاتزال: 
تفيد بإيه إيه ياندم ياندم ياندم.. 

فيزداد السائق ضغطًا على البنزين وبالكاد تلمس العجلات الأسفلت، 
كأننا على وشك الطيران،
 
لماذا يثيره ذكر الندم؟ 
وعلام يندم لهذا الحد؟ 

هل يصاحبنا الندم حتى الكبر؟ 
وكيف نحتمله كبارا إذا لا نقوى عليه صغارا؟ 

آه يارأسي العجيب أهذا وقت مناسب للعمق؟ 
أم أن عادة الكتّاب في وصل الأحداث بالأفكار لنسجِ الحكايا؟ 

طالت ليالي الألم 
واتفرقوا الأحباب 

أضبط نفسي أبتسم؛
يميل رأسي وأردد مع الست خلسة، هذا امرأة ليست كالنساء، هذه امرأة ساحرة، طالما آمنت أن بها مس من جنون، صوتها عصيّ على العقل تصديقه، 
يبدو الأمر منطقيًا الآن وينكشف لي الرابط بينها وبين هذه الليلة العجيبة، الجنون، 
أشعر بالفوز لحل اللغز، 

الست تعرف كيف يعمل قلبي، 
في الخوفِ والحزن تلقي عصاها السحرية نحوي  فأخرج من كدري لأجالسها وأدندن، 
تعرف عني كل شيء، فتأتي بأغنيتي المفضلة في تلك الليلة المربكة وما أحوجني لصحبتها، 
آه لو كان الوقت مناسبًا أكثر لأعددت القهوة وفتحت النافذة وأطفأت النور واكتفيت بضوء القمر وتمددت على الكنبة، 
وقت غير مناسب ياست أو ربما هو الأنسب فعلا، وأنا قبلت البشرى.. 

أوشكنا على الاقتراب من الموقف، لا تزال جارتي تمسك بي، إن كان هذا أمانك فهنيالك، 
تتطلع إليّ بقلق شديد، فأقول: 

بصي للجانب الإيجابي من المغامرة، 
وصلنا في نص ساعة بدل ساعة.. 

صغارا كنا نغني في الرحلات المدرسية 
سواقكم سواق حمار وسواقنا سواق طيار، 

فليسقط كل السائقين، الآن فقط أبصم بالعشرة أنه سواق واحد فقط يستحق لقب الطيار، 
إنه هذا المختل، 
يبدو لي كالسائق العصبي الذي كتب عنه درويش، ها أنا أراه حقيقةً خارج القصيدة، 
زيديني يا ليلة العجائب زيديني.. 

قبيل الموقف بعدة أمتار قرر الرجل التوقف عند البنزينة، التقطت أنفاسي، تحسست جسدي، لم أمت بعد؟ أحمدك يارب،
نزل هو من السيارة وراح لخرطوم البنزين أمسكه وظل يبحلق في السيارة كأنما يتعرف عليها لأول مرة! 
أليست سيارته؟ أهي مسروقة؟ 
يبدو ذلك مبررًا منطقيًا لأفعاله الليلة، فأخونا هذا مستغني عنها تماما عكس المتعارف عليه من تعلق السائقين بعرباتهم، 
سرقة أم زهد يامحيرني! 

تركه العامل في البنزينة يفعل مايحلو له واكتفى بمراقبته في صمت، لم يغضب ولم يبدو فزعًا أو مندهشًا، يبدو أنه سائق معروف إذًا، 

أشرت للعامل متساءلة ماذا يحدث؟ 
من هذا وماذا به؟ 
وضع إصبعه على فمه أي لا تتكلمي، وأشار بكفه عند رقبته تحذيرًا لأن أحافظ على سلامتي،  
لم أنتظر إشارةً لأتأكد أنه مجنون ولكنها أكدت لي أن حياتنا لاتزال في خطر حتى ونحن وقوف هنا في البنزينة، 

فجأة فتح الأبواب بعصبية شديدة، 
فتح النوافذ بنفس العصبية حتى كادت تنخلع في يده، بينما نرتعد في مقاعدنا، التف حول الباص يتأمله ويتأملنا بنفاد صبر وحيرة أمر، 
مشى إلى الخلف وفتح شنطة العربية، 
التفتنا جميعا للخلف نترقب، 
حتى وجدناه ينظر إلينا ساندًا يديه على ظهر المقعد الأخير وهو يقول:
الهوا حلو الهوا حلو.. 

وكفاية بقا تعذيب وشقا..
 

 

تسنيم نصر